تطور قضائي في لبنان يكشف أسباب هدر أموال المودعين .. خطوة نحو المحاسبة والشفافية

تحقيقات قضائية جديدة في لبنان تطلب كشف حسابات مدراء المصارف للكشف عن أسباب هدر أموال المودعين. خطوة تاريخية قد تمهد لاسترداد الودائع ومحاسبة المسؤولين عن الأزمة المالية.

في خطوة وصفت بأنها "تاريخية" في مسار الأزمة المالية التي تعصف بلبنان منذ سنوات، باشرت النيابة العامة المالية تحقيقات موسعة قد تكشف أخيراً الأسباب الحقيقية وراء هدر أموال المودعين في المصارف اللبنانية. يأتي ذلك بعد طلب رسمي من النائب العام المالي القاضي ماهر شعيتو إلى حاكم مصرف لبنان المركزي كريم سعيد، لتقديم كشوفات مفصلة بحركة الحسابات المصرفية الشخصية لرؤساء وأعضاء مجالس إدارة المصارف التجارية في البلاد، سواءً السابقين منهم أو الحاليين.

هذا التطور القضائي، الذي قد يمهد الطريق لاسترداد جزء من الودائع المحتجزة، يأتي في وقت لا يزال نحو مليون مودع، بين أفراد ومؤسسات، يعانون من تجميد مدخراتهم أو سحبها بخصومات هائلة، في واحدة من أقسى الأزمات المالية العالمية في العصر الحديث.

تفاصيل التحقيق: كشف الحسابات والتحويلات المشبوهة

وفقاً للوثيقة القضائية التي نشرها موقع "العربية.نت" والمؤرخة في 18 نوفمبر 2025، فإن طلب النائب العام المالي جاء في إطار "تحقيقات أولية تجريها النيابة العامة المالية بموضوع اشتباه بحصول جرائم جزائية ومنها جرائم مصرفية". ويطالب الكتاب الرسمي مصرف لبنان المركزي بتقديم بيان مفصل يشمل:

  • الحسابات المصرفية العائدة لرؤساء وأعضاء مجالس إدارة جميع المصارف التجارية في لبنان.

  • سجل التحويلات المالية من داخل لبنان إلى الخارج لهؤلاء الأشخاص، وذلك للفترة الممتدة من 1 يوليو 2019 حتى 1 ديسمبر 2023.

وهي فترة حاسمة تغطي بدء الانهيار المالي وفرض قيدود السحب غير الرسمية على المودعين، وما تلاها من إجراءات. وأكد مصدر قضائي لـ"العربية.نت" أن مصرف لبنان قام فعلياً بتعميم هذا الكتاب على المصارف التجارية كافة يوم الثلاثاء 9 ديسمبر 2025، "ملزماً إياها بضرورة التجاوب" مع طلب القضاء. وأوضح المصدر أن هذه الخطوة "تم توجيهها وفق القانون، وعليه فإن جواب المصارف يجب أن يكون حسب القانون أيضاً".

فصل التحقيقات عن "قانون الفجوة المالية"

يأتي هذا التحقيق المالي المتخصص في وقت تستعد فيه الحكومة اللبنانية برئاسة نواف سلام للمناقشة النهائية لمشروع "قانون الفجوة المالية". هذا القانون يهدف إلى تحديد حجم الخسائر الهائلة في القطاع المالي، المقدرة بنحو 80 مليار دولار، والتي تمثل في غالبيتها استثمارات البنوك في سندات مصرف لبنان (أو ما يعرف بالبيربلوس). يقابل هذه الخسائر إجمالي الودائع المجمدة لنحو مليون حساب.

ورغم التقارب الزمني، أكد المصدر القضائي أن "هذه التحقيقات المالية فضلاً عن كتاب النيابة العامة المالية لا علاقة لها بقانون 'الفجوة المالية'". بل هي "استكمال لتحقيقات بدأتها النيابة العامة المالية منذ أشهر حول شبهات مالية، بطلب من عدة مودعين تبددت أموالهم في المصارف".

وخلال لقائه مع مسؤولة فرنسية، شدد رئيس الحكومة نواف سلام على أن إعداد قانون الفجوة المالية يجري "بالتنسيق مع مختلف الجهات المعنية، بهدف الوصول إلى توافق واسع"، مؤكداً على "الالتزام التام بحماية حقوق المودعين وصون مصالحهم" والعمل على "إرساء قطاع مصرفي صحي".

الهدف النهائي للتحقيقات

أشارت التعليقات السياسية والقضائية على هذا التطور إلى أن الهدف الاستراتيجي منه هو تمهيد الطريق لـ "استعادة الودائع" المسربة أو المنهوبة. وصرح النائب رازي الحاج، عضو كتلة "القوات اللبنانية" ولجنة المال والموازنة النيابية، لـ"العربية.نت" بأنه "إذا استطاع القضاء معرفة كيف تم الاستيلاء على الأموال وتهريبها بطريقة غير مشروعة، فيجب إعادتها إلى صندوق ما يُعرف 'باستعادة الودائع'".

وأوضح الحاج أن رفع السرية المصرفية أمام الهيئات القضائية والرقابية هو الإطار القانوني الذي يسمح بمثل هذه التحقيقات، مشدداً على أن "تطبيق المحاسبة على كل مسؤول عن المرحلة السابقة كفيل باستعادة الودائع التي تبدد جزء منها نتيجة السياسة النقدية التي كانت متبعة والسياسة المالية (العجز بالموازنة) إضافة إلى الفساد والتلاعب بالحسابات".

ست سنوات من معاناة المودعين

لم تكن تحقيقات النيابة العامة المالية لتأتي لولا المعاناة المستمرة منذ أكثر من ست سنوات. فمنذ عام 2019، فرضت المصارف اللبنانية قيوداً غير مسبوقة على سحب الودائع بالدولار الأمريكي، محولةً المدخرات إلى حسابات بالليرة اللبنانية بسعر صرف رسمي منفصل تماماً عن سوق السوداء، ما أدى إلى تآكل القيمة الحقيقية للمدخرات بنسبة تفوق 90% في كثير من الحالات.

على مدار هذه السنوات، لم تتم محاكمة أي من كبار مسؤولي المصارف أو أعضاء مجالس إدارتها علناً بسبب دورهم في الأزمة، رغم التقارير الدولية التي أشارت إلى ممارسات غير سليمة وسياسات استنزفت احتياطيات البلاد. وقد سلط تقرير للبنك الدولي عام 2021 الضوء على أن الأزمة في لبنان من صنع النخب المحلية، واصفاً إياها بـ"الهجوم المصرفي المنظم" على ثروة المودعين.

تحديات التحقيق وآفاق المستقبل

رغم الأهمية الرمزية والعملية لهذه الخطوة القضائية، إلا أن التحديات لا تزال كبيرة. يواجه القضاء اللبناني ضغوطاً سياسية هائلة، كما أن تعقيد التحويلات المالية الدولية وإمكانية إخفاء الأموال في ملاذات ضريبية خارجية يجعل عملية التتبع صعبة. ومع ذلك، فإن مجرد البدء بهذه التحقيقات يرسل رسالة قوية قد تساعد في استعادة جزء من الثقة المفقودة في المؤسسات.

ويبقى السؤال الأكبر: هل ستترجم هذه التحقيقات المالية إلى إجراءات قضائية فعلية ومصادرة أموال، أم أنها ستضيع في أروقة المحاكم لسنوات؟ نجاح هذه الخطوة قد يشكل سابقة مهمة ليس فقط من أجل العدالة الانتقالية في لبنان، بل أيضاً كدرس لدول أخرى حول كيفية محاسبة النخب المالية المسؤولة عن الانهيارات الاقتصادية.

يُذكر أن منظمات دولية مثل "هيومن رايتس ووتش" كانت قد دعت مراراً إلى محاسبة المسؤولين عن الأزمة المالية في لبنان، معتبرة أن تجميد الودائع دون إجراءات عدالة انتهاك للحقوق الاقتصادية للمواطنين. كما أن صندوق النقد الدولي يشترط إجراء إصلاحات شاملة، بما في ذلك التعامل مع خسائر القطاع المصرفي بشفافية، كشرط مسبق لأي برنامج إنقاذ كبير.

بصيص أمل في نفق مظلم

يمثل طلب النائب العام المالي كشف حسابات مدراء المصارف أول خطوة قضائية جادة نحو كشف الحقيقة وراء فقدان مدخرات مئات الآلاف من العائلات اللبنانية. إنه اختبار حقيقي لإرادة الدولة في محاسبة الفاسدين واسترداد الأموال المنهوبة، وخطوة لا بد منها على طريق أي إصلاح مالي حقيقي. ومع أن الطريق لا يزال طويلاً أمام استعادة أموال المودعين كاملة، إلا أن هذه الخطوة تبقى بصيص أمل مهم في نفق الأزمة المظلم الذي دخل عامه السابع.

إرسال تعليق

أحدث أقدم