رحلة إلى قاع البحر تكشف عن كنز تاريخي مدفون
في اكتشاف أثري مثير يسلط الضوء على عراقة التاريخ البحري لمصر، أعلنت البعثة الأثرية المصرية العاملة في منطقة خليج أبو قير بالإسكندرية، عن اكتشاف حطام سفينة رومانية نادرة تعود إلى العصر الروماني المبكر. الاكتشاف، الذي وصفته وزارة السياحة والآثار المصرية بأنه "مهم للغاية"، يقدم لمحة نادرة عن حياة التجارة والملاحة في مصر الرومانية خلال فترة ازدهارها كأحد أهم أقاليم الإمبراطورية.
جاء هذا الإعلان الرسمي يوم الأحد، بعد أشهر من العمل الدؤوب تحت الماء، حيث عثر الغواصون على بقايا السفينة محملة بمجموعة متميزة من الأمفورات (الجرات الفخارية) التي كانت تستخدم في نقل البضائع عبر البحر المتوسط.
المصدر الأساسي نقلاً عن بيان رسمي صادر عن وزارة السياحة والآثار المصرية.
سفينة تجارية تحكي قصة ازدهار وغرق
تم العثور على حطام السفينة الرومانية على عمق يقارب 15 متراً تحت سطح البحر، في موقع قريب من بقايا مدينتي كانوب وهيراكليون الغارقتين، واللتين اكتشفتا سابقاً في نفس المنطقة. تشير المعطيات الأولية التي أعلنتها البعثة الأثرية، بقيادة عالم الآثار البحرية الدكتور إيهاب فهمي، إلى أن السفينة كانت سفينة تجارية ذات حمولة متوسطة، يتراوح طولها بين 15 و20 متراً.
حالة الحطام: رغم مرور ما يقرب من 2000 عام، فإن أجزاء كبيرة من هيكل السفينة الخشبي بقيت محفوظة بشكل ملحوظ تحت الرواسب البحرية، مما ساهم في حمايتها من عوامل التعرية والكائنات البحرية. هذا الحفظ الاستثنائي يمنح الأثريين فرصة نادرة لدراسة تقنيات بناء السفن في ذلك العصر.
الحمولة: العنصر الأكثر إثارة هو الحمولة التي عُثر عليها متناثرة حول الحطام. تم انتشال عدد كبير من أمفورات رومانية سليمة وشبه سليمة، مما يشير إلى أن السفينة كانت محملة ببضائع ثمينة، يُعتقد أنها زيت الزيتون والنبيذ والحبوب من موانئ بحر إيجه أو الأناضول، في طريقها إلى ميناء الإسكندرية العظيم، الذي كان يُعد سلة غذاء للإمبراطورية الرومانية.
تاريخ الغرق: بناءً على طراز الأمفورات والفخاريات المصاحبة، يقدر الخبراء أن تاريخ غرق السفينة يعود إلى الفترة بين القرن الأول قبل الميلاد والقرن الثاني الميلادي، وهي فترة ذروة النشاط التجاري الروماني في شرق المتوسط.
نافذة على اقتصاد مصر في العصر الروماني
لا يقتصر أهمية هذا الاكتشاف على كونه مجرد حطام سفينة عادية، بل يكمن في كونه أرشيفاً غنياً بالمعلومات عن الحياة الاقتصادية والاجتماعية في مصر الرومانية. تُظهر الحمولة طبيعة العلاقات التجارية الواسعة التي كانت تربط الإسكندرية، عاصمة مصر الرومانية، بباقي أرجاء الإمبراطورية. كانت الإسكندرية ميناءً حيوياً تستقبل السلع الفاخرة والمواد الخام وتصدر الحبوب المصرية الشهيرة.
كما يلقي الاكتشاف الضوء على خطوط الملاحة البحرية التي كانت تسلكها السفن التجارية، والتي غالباً ما كانت تتجنب المياه المفتوحة وتقترب من السواحل. موقع الغرق قرب خليج أبو قير يشير إلى أن السفينة كانت على بعد أميال قليلة من الوصول إلى بر الأمان في الإسكندرية، مما يضفي طابعاً دراماتيكياً على قصتها.
وفقاً لتصريحات وزارة الآثار، فإن دراسة هذا الحطام السفينة الرومانية ستساعد في فهم أفضل لتقنيات الملاحة القديمة، وأنظمة التخزين على متن السفن، وحتى الظروف الجوية والمناخية التي كانت سائدة في البحر المتوسط في تلك الحقبة.
تقنيات حديثة لاستخراج أسرار الماضي
كشف النقاب عن هذا الكنز المغمور لم يكن عملية سهلة، بل استلزم عملاً دقيقاً ينفذ على مراحل:
المرحلة الأولى: المسح والرصد: باستخدام تقنيات سونار المسح الجانبي ومقياس المغناطيسية، تمكن الفريق من تحديد موقع شاذ في قاع البحر. جاء ذلك غالباً كجزء من مسح منهجي للمنطقة التي تشتهر بوجود آثار غارقة.
المرحلة الثانية: الغوص والتنقيب: قام غواصون متخصصون في الآثار الغارقة بتنفيذ سلسلة من الغطسات لفحص الموقع يدوياً. تم تنظيف الرواسب بلطف عن أجزاء من الهيكل والحمولة، مع توثيق كل قطعة في مكانها قبل رفعها، وذلك للحفاظ على السياق الأثري الذي يعد بمثابة "مشهد الجريمة" للتاريخ.
المرحلة الثالثة: الرفع والمعالجة: تم رفع الأمفورات والأجزاء الخشبية بعناية فائقة ونقلها فوراً إلى معامل الترميم التابعة لوزارة الآثار في الإسكندرية. هناك، تخضع القطع لعملية تحلية لإزالة الأملاح المتراكمة داخل مسامها على مدى قرون، تليها عملية ترميم وتقوية للحفاظ عليها للأجيال القادمة.
معركة ضد الزمن والطبيعة
تواجه البعثات العاملة على حطام سفن غارقة مثل هذه مجموعة فريدة من التحديات:
البيئة البحرية: تتعرض الآثار الغارقة باستمرار للتآكل بفعل المياه المالحة، وحركة التيارات، والنشاط البيولوجي للكائنات البحرية الدقيقة (مثل الديدان البحرية).
الصيد غير القانوني والنهب: يمثل صيادو الكنوز غير الشرعيين تهديداً دائماً للمواقع الأثرية الغارقة، حيث يقومون بنبشها بحثاً عن قطع ثمينة يمكن بيعها في السوق السوداء، مما يدمر السياق العلمي للاكتشاف.
التكلفة والتعقيد: العمل الأثري تحت الماء مكلف للغاية ويتطلب معدات متخصصة (مثل أجهزة التنفس، كاميرات المياه، مضخات رفع) وفرقاً مدربة تدريباً عالياً تضم غواصين وأثريين ومرممين.
كيف سيصبح الاكتشاف تراثاً للجميع
أعلنت وزارة السياحة والآثار أن العمل جارٍ على ترميم القطع المستخرجة من حطام السفينة الرومانية، وأنه من المقرر عرض مجموعة مختارة منها في المستقبل القريب. تُدرس عدة خيارات لعرض هذا الإرث، منها:
دمجها في العرض المتحفي: ربما في المتحف القومي للحضارة المصرية بالإسكندرية (المزمع افتتاحه) أو في متحف الآثار الغارقة المقترح إنشاؤه في المدينة.
إنشاء معرض تفاعلي: يمكن إنشاء معرض خاص يروي قصة الرحلة الأخيرة للسفينة، من خلال الأمفورات والأدوات الشخصية للبحارة التي قد تُكتشف لاحقاً، مع استخدام التقنيات الرقمية لإعادة بناء السفينة بشكل ثلاثي الأبعاد.
الحفاظ على الموقع كمنتزه أثري تحت الماء: بالنسبة للهيكل الخشبي الأكبر حجماً، قد يتم دراسة إمكانية تركه في مكانه وإعلانه موقعاً محمياً للغطس السياحي الأثري، كما هو الحال في بعض دول البحر المتوسط، مما يوفر تجربة فريدة للغواصين مع ضمان حماية الموقع.
الإسكندرية ومدنها الغارقة
يضيف هذا الاكتشاف طبقة جديدة إلى تاريخ منطقة خليج أبو قير الأسطوري، الذي يحوي تحت مياهه مدينتين كاملتين: هيراكليون وكانوب. كانت هاتان المدينتان مركزين دينيين وتجاريين مزدهرين قبل أن تغرقا بفعل مجموعة من العوامل الطبيعية، بما في ذلك الزلازل وارتفاع منسوب البحر وانخفاض التربة. لقد حولت هذه الكارثة المنطقة إلى "بومبي تحت الماء"، مجمدةً اللحظة الزمنية بشكل مذهل.
اكتشاف حطام سفينة رومانية في جوار هذه المدن يربط بين قصصها؛ فهو يذكرنا بأن هذه المياه كانت ممراً مزدحماً للسفن القادمة لتبادل السلع مع المدن المزدهرة قبل أن تبتلعها الأمواج. وهو يؤكد أن خليج أبو قير هو أحد أهم مواقع الآثار الغارقة في العالم، ولا يزال يحتفظ بالكثير من الأسرار التي تنتظر من يكتشفها.
الماضي يطفو على السطح ليثري المستقبل
اكتشاف حطام السفينة الرومانية في الإسكندرية هو أكثر من خبر أثري عابر؛ إنه إعادة اتصال ملموس مع لحظة حيوية من تاريخ البحر المتوسط. كل أمفورة تم انتشالها هي رسالة من بحار وتاجر روماني، تحمل عبق زيت الزيتون ونبيذ اليونان وحبوب مصر.
هذا الاكتشاف يعزز مكانة مصر كدولة رائدة في مجال الآثار الغارقة، ويسلط الضوء على أهمية الاستثمار في هذا التخصص العلمي الدقيق. كما أنه يغني الرواية التاريخية لـ مصر الرومانية، التي غالباً ما تطغى عليها إنجارات مصر الفرعونية في الأذهان العامة.
في النهاية، فإن هذه السفينة التي فشلت في إكمال رحلتها قبل ألفي عام، تكمل اليوم رحلة مختلفة: رحلة من ظلمات قاع البحر إلى ضوء المعرفة والعرض المتحفي، لتحكي لأبناء الحاضر عن ازدهار أجدادهم، ولتذكير العالم بأن تاريخ الإنسانية مكتوب ليس فقط على البر، ولكن أيضاً في أعماق البحار.