المجلس الانتقالي الجنوبي والعملية السياسية في اليمن: إجراءات تتصاعد والتحديات تعقد المسار

تحليل لتأثير الإجراءات الأحادية الأخيرة للمجلس الانتقالي الجنوبي على العملية السياسية في اليمن. نستعرض طبيعة هذه الخطوات، ردود الفعل المحلية والإقليمية، والسيناريوهات المستقبلية لمسار السلام الشامل في ظل تعقيدات المشهد اليمني.

ناقوس خطر جديد يهدد الاستقرار في اليمن

في تطور يضيف طبقة جديدة من التعقيد على المشهد اليمني المتشابك أصلاً، تثير الإجراءات الأخيرة التي أعلن عنها المجلس الانتقالي الجنوبي تساؤلات حادة حول مصير العملية السياسية في اليمن برمتها. تصاعدت التحذيرات من أن هذه الخطوات، التي يُنظر إليها على أنها أحادية وتصعيدية، قد تقوض الجهود الإقليمية والدولية الرامية إلى إحلال السلام وإنهاء الصراع الدامي الذي استنزف البلاد لأكثر من عقد.

يأتي هذا التصعيد في وقت حساس تشهد فيه الدبلوماسية الإقليمية حراكاً ملحوظاً، مما يضعف الثقة بين الأطراف اليمنية ويهدد بإفشاك أي تقدم نحو تسوية شاملة. يُعيد هذا الوضع إلى الواجهة الجدل القديم حول أولوية إنهاء الحرب مع الحوثيين مقابل معالجة المطالب الجنوبية، ويطرح تحدياً مباشراً أمام الآلية الدولية التي تسعى لقيادة مسار سياسي شامل في اليمن.

من هو المجلس الانتقالي الجنوبي؟ جذور الحركة ودورها في المشهد المعقد

لفهم تداعيات الإجراءات الحالية، يجب العودة إلى أصول المجلس الانتقالي الجنوبي نفسه. تأسس المجلس في مايو 2017 كتحالف لقوى الحراك الجنوبي، مدعوماً بشكل كبير من الإمارات العربية المتحدة، وسرعان ما أصبح لاعباً رئيسياً في المشهد السياسي والعسكري في جنوب اليمن. يدعو المجلس، في جوهر أطروحته، إلى حق تقرير المصير لأبناء جنوب اليمن، مستنداً إلى الذاكرة التاريخية لدولة الجنوب السابقة قبل الوحدة في عام 1990.

خلال سنوات الحرب، تمكن المجلس، عبر قوات "الحزام الأمني" المدعومة إماراتياً، من السيطرة الفعلية على العاصمة المؤقتة عدن ومعظم محافظات الجنوب.

وعلى الرغم من مشاركته رسمياً في الشراكة مع الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً بقيادة الرئيس عبدربه منصور هادي (ورئيسها الحالي رشاد العليمي) ضمن إطار "المجلس الرئاسي"، إلا أن العلاقة ظلت متوترة ومليئة بالمنافسة على الشرعية والنفوذ. إن إدراك هذه الخلفية ضروري لتقييم كيف أن أي خطوة أحادية من قبل الانتقالي الجنوبي لا تمثل خلافاً مع الحوثيين فحسب، بل هي أيضاً تصعيد في الصراع على السلطة داخل معسكر "الشرعية" ذاته، مما يهدد تماسكه ويشتت الجهود.

ماذا فعل المجلس الانتقالي الجنوبي؟

تشير التقارير والتحليلات إلى أن المجلس الانتقالي الجنوبي قد باشر سلسلة من الإجراءات على الأرض وفي المجال الإداري والسياسي تم تفسيرها على أنها استعداد لتثبيت أمر واقع جديد. لم تنحصر هذه الإجراءات في التصريحات الخطابية، بل تجسدت في حركات ملموسة أثارت القلق:

  • تعزيز السيطرة الإدارية والعسكرية: من خلال تعيينات في مناصب حكومية وأمنية في المحافظات الجنوبية، وإحكام السيطرة على المؤسسات والمقار الحكومية، مما يقلص فعلياً من نفوذ الحكومة المركزية التابعة للمجلس الرئاسي في تلك المناطق.

  • خطاب سياسي متشدد: تصاعدت اللهجة في خطابات قيادات المجلس، مع تأكيد متزايد على "الحقوق الجنوبية" كقضية غير قابلة للتفاوض، وربط أي مشاركة مستقبلية في العملية السياسية في اليمن بشرط الاعتراف المسبق بهذه الحقوق وبالمجلس كممثل وحيد للجنوب.

  • استعدادات ذات دلالة: تحدثت بعض التقارير عن تحركات وتدابير تفسر على أنها استعداد لفرض واقع منفصل، أو على الأقل، لامتلاك ورقة ضغط قوية لا يمكن تجاهلها في أي مفاوضات مقبلة.

هذه الخطوات، مجتمعة، ترسل رسالة واضحة مفادها أن المجلس الانتقالي الجنوبي لم يعد مستعداً لانتظار نتائج مسار سياسي غامض المعالم وبطيء الخطى، بل يسعى لخلق وقائع تحقق مكاسب ملموسة وتفرض نفسها على طاولة أي حوار مستقبلي. هذا النهج، رغم فهم دوافعه من وجهة نظر الجنوبيين الذين يشعرون بالتهميش، يحمل خطر انفجار الصراع على جبهات متعددة وتعطيل مسار سياسي شامل في اليمن يعالج جميع القضايا، بما فيها القضية الجنوبية، في إطار شامل.

تحذيرات وصمت ومواقف متباينة

أثارت تحركات الانتقالي الجنوبي ردود فعل متباينة، تعكس بدورها الانقسامات العميقة داخل المشهد اليمني والإقليمي:

  • الحكومة اليمنية (المجلس الرئاسي): وجهت حكومة الرئيس رشاد العليمي اتهامات مباشرة للمجلس الانتقالي بمحاولة "تقويض الشرعية" و"تعطيل مساعي السلام". وشددت على أن أي حل يجب أن يتم في إطار دولة يمنية موحدة، ورفضت الإجراءات الأحادية، معتبرة إياها تهديداً للتضامن في مواجهة الحوثيين.

  • أنصار الشرعية والتجمع اليمني للإصلاح: عبرت قوى سياسية واجتماعية شمالية، وخصوصاً المقربة من الإصلاح، عن رفضها القاطع لأي خطوات انفصالية، محذرة من أن اللعب بورقة الجنوب سيؤدي إلى تمزيق البلاد ويعقد الحرب ضد الحوثيين إلى درجة الاستحالة.

  • الموقف الإقليمي (السعودية والإمارات): هنا تكمن أحد أهم مفاتيح اللغز. بينما تمثل السعودية الراعي الرئيسي للمسار السياسي والعملية السياسية في اليمن الشاملة، وتحرص على استقرار الجنوب كمقدمة لأي تسوية، فإن الإمارات تعد الداعم الأساسي للمجلس الانتقالي. هذا يخلق حالة من التوتر الخفي بين الحليفين، حيث تسعى الرياض لاحتواء التصعيد ودفع الأطراف للحوار، بينما قد ترى أبوظبي في المجلس ورقة ضغط واستثماراً استراتيجياً طويل الأمد. يعتمد تهدئة الموقف كثيراً على مدى التنسيق بين الرياض وأبوظبي لحث المجلس الانتقالي الجنوبي على التريث.

  • الموقف الدولي (الأمم المتحدة والغرب): عبرت الأمم المتحدة وعدد من الدول الغربية عن قلقها البالغ من أي إجراءات أحادية تزيد من تعقيد المشهد. يؤكد المبعوثون الدوليون باستمرار على ضرورة أن يكون مسار سياسي شامل في اليمن جامعاً وشاملاً، ويعالج جميع القضايا عبر التفاوض وليس عبر فرض الأمر الواقع.

التداعيات على عملية السلام: سيناريوهات بين التعطيل والاحتواء

تتعدد السيناريوهات المحتملة لتأثير إجراءات المجلس الانتقالي الجنوبي على العملية السياسية في اليمن:

  1. سيناريو التعطيل الكامل: وهو الأسوأ، حيث يؤدي التصعيد إلى اشتباكات مسلحة جديدة بين قوات المجلس وقوات موالية للحكومة في عدن والجنوب، لينفجر صراع جانبي جديد. هذا سيشتت الجهود العسكرية والدبلوماسية تماماً، ويجعل أي حديث عن سلام مع الحوثيين ضرباً من الخيال، وسيدفع البلاد نحو حرب أهلية متعددة الجبهات بلا أفق.

  2. سيناريو التجميد والجمود: يستمر التوتر عند حده، بدون انفجار عنيف كبير ولكن أيضاً بدون تقدم سياسي. يتحول الجنوب إلى كيان منفصل فعلياً تحت سيطرة المجلس، بينما تستمر الحرب في الشمال. يتجمد المسار السياسي الشامل في اليمن لسنوات إضافية، في انتظار تحول جيوسياسي إقليمي أو دولي يغير المعادلة.

  3. سيناريو الاحتواء والدمج: وهو الأفضل ولكنه الأصعب. يتمكن الراعيون الإقليميون، وخصوصاً السعودية، من حث المجلس الانتقالي الجنوبي على كبح التصعيد، مقابل وعود واضحة وضمانات بإدراج قضيته بشكل جاد وفعلي في أي مفاوضات سلام مقبلة. يصبح تمثيل الجنوب ومطالبه جزءاً لا يتجزأ من العملية السياسية في اليمن، وليس مساراً موازياً أو معرقلاً لها. هذا يتطلب حنكة دبلوماسية عالية وضغطاً متوازناً على جميع الأطراف.

بين حقائق المطالب الجنوبية ومتطلبات السلام الشامل

في النهاية، تكشف الإجراءات الأخيرة للمجلس الانتقالي الجنوبي عن ثغرة خطيرة في بنية العملية السياسية في اليمن. لطالما تم التعامل مع القضية الجنوبية كلاعب ثانوي أو تم تأجيلها لمرحلة "ما بعد إنهاء الحرب مع الحوثيين". لكن المجلس، بقوته على الأرض ودعمه الإقليمي، يصر على كسر هذه القاعدة ووضع قضية الجنوب في صلب أي حل.

الخطر الحقيقي لا يكمن في المطالب الجنوبية العادلة بحد ذاتها، بل في الأسلوب الأحادي والتوقيت التصعيدي الذي قد يحولها من قضية يمكن التفاوض حولها إلى قنبلة قادرة على تفجير مسار سياسي شامل في اليمن برمته. مستقبل اليمن السلام يعتمد على قدرة الأطراف اليمنية، وخاصة المجلس الانتقالي الجنوبي والحكومة المعترف بها، وكذلك الراعيين الإقليميين، على تجاوز منطق الصفر وإعادة الثقة المفقئة.

يجب أن يكون الحل جامعاً يعالج جراح الشمال والجنوب معاً، ويعيد الاعتبار لجميع اليمنيين، ويبني دولة تستوعب تنوعها بدلاً من أن تمزقها خلافاته. هذا هو التحدي الأكبر الذي تضعنا أمامه التطورات الأخيرة، وهو اختبار حقيقي لإرادة السلام لدى الجميع.

إرسال تعليق

أحدث أقدم