البيت الأبيض وسوريا: تأكيدات جديدة على التزام مستقر وموحد


البيان الأمريكي في سياق متغير

أعاد المتحدث باسم البيت الأبيض، مؤخراً، التأكيد على موقف الإدارة الأمريكية الثابت والمتسق تجاه الأزمة السورية، مشدداً على أن دعم استقرار البلاد ووحدتها يبقى ركيزة أساسية في السياسة الخارجية لواشنطن. جاء هذا التصريح في وقت تشهد فيه المنطقة تحولات جيوسياسية متسارعة، مما يدفع العديد من المراقبين للتساؤل عن مدى تأثير هذه العوامل على السياسة الأمريكية تجاه سوريا.

لا تهدف هذه التصريحات إلى مجرد تجديد الخطاب الرسمي فحسب، بل تمثل أيضاً رسالة واضحة للأطراف الإقليمية والدولية حول استمرار الأولويات الاستراتيجية للولايات المتحدة، رغم تبدل المشهد الدولي. يعكس هذا الموقف تراكماً لسنوات من الدبلوماسية والعمل الميداني، حيث تسعى واشنطن إلى تحقيق توازن دقيق بين الضغوط الإنسانية، والمصالح الأمنية، والتعقيدات الدولية المحيطة بالملف السوري.

الخلفية التاريخية: تطور الموقف الأمريكي من الأزمة السورية

لفهم تعقيدات الموقف الأمريكي من سوريا اليوم، من الضروري العودة إلى جذور الأزمة. منذ اندلاع الاحتجاجات الشعبية في عام 2011 وتحولها إلى صراع مسلح معقد، شهدت السياسة الأمريكية تحولات ملحوظة. بدءاً من الدعوات المبكرة لتنحي الرئيس بشار الأسد، مروراً بالتدخل العسكري المحدود ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) بقيادة التحالف الدولي، ووصولاً إلى التركيز على المساعدات الإنسانية والدبلوماسية.

شكلت إدارة الرئيس باراك أوباما حجر الأساس في رسم معالم هذا النهج، حيث ركزت على مكافحة الإرهاب مع تجنب التورط العسكري المباشر والعميق. ثم جاءت إدارة دونالد ترامب لتعطي أولوية قصوى لهزيمة داعش، مع إعلانها سحب القوات الأمريكية من شمال شرق سوريا في عام 2019، وهو القرار الذي عدل عنه لاحقاً بشكل جزئي للحفاظ على وجود محدود. أما تحت قيادة الرئيس جو بايدن، فقد استمر التركيز على الاستقرار ومكافحة الإرهاب، مع تجديد الالتزام بالعمل عبر القنوات الدبلوماسية والأممية، مثل دعم عملية السلام التي تقودها الأمم المتحدة.

هذا المسار المتعرج يوضح أن البيت الأبيض وسوريا موضوع تتقاطع فيه اعتبارات أمنية داخلية، وعلاقات تحالفية مع شركاء مثل "قوات سوريا الديمقراطية"، وصراعات مع خصوم مثل إيران وروسيا، فضلاً عن الضغط الإنساني الهائل الناجم عن نزوح ملايين السوريين.

تحليل تصريحات البيت الأبيض الأخيرة: بين الثبات والضرورات الجديدة

التصريحات الأخيرة للمتحدث باسم البيت الأبيض لم تخرج عن الإطار العام الذي تم بناؤه على مر السنوات، لكنها حملت دلالات مهمة في توقيتها وسياقها. في ظل تصاعد التوترات الإقليمية وتجدد النقاش حول مستقبل بعض مناطق النفوذ في سوريا، تؤكد واشنطن أن سياستها "مستقرة وموحدة". هذا يعني، عملياً، عدة أمور:

  • رفض أي حل عسكري شامل: الإصرار على أن الحل الدائم للأزمة يجب أن يكون سياسياً، عبر عملية جنيف التي ترعاها الأمم المتحدة، رغم الجمود الذي تعانيه.

  • الحفاظ على ضغوط العزلة: الاستمرار في سياسة العقوبات الاقتصادية والسياسية على النظام السوري، بهدف دفعه للانخراط الجدي في عملية سياسية.

  • دعم الاستقرار في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام: يشمل ذلك استمرار الدعم الإنساني والتنموي للمناطق مثل الشمال الشرقي والشمال الغربي، وضمان عدم عودة تنظيم داعش للظهور.

  • مواجهة النفوذ الإيراني والروسي: اعتبار وجود هاتين القوتين في سوريا تهديداً للمصالح الأمريكية ولأمن حلفائها في المنطقة، لا سيما إسرائيل.

هذا الثبات المقصود في السياسة الأمريكية تجاه سوريا هو، في جزء منه، رد على محاولات النظام السوري وحلفائه كسر العزلة الدولية عبر تطبيع علاقات مع بعض الدول العربية. كما أنه تأكيد للشركاء المحليين في سوريا على أن واشنطن لن تتخلى عنهم بشكل مفاجئ، كما حدث في تجارب سابقة أثارت قلقاً كبيراً.

التحديات الحالية التي تواجه السياسة الأمريكية في سوريا

رغم الخطاب الموحد، فإن صناع القرار في البيت الأبيض وإدارة بايدن يواجهون مجموعة من التحديات المتشابكة التي تجعل من الموقف الأمريكي من سوريا قضية شائكة:

  1. التحدي الإنساني الكارثي: تعاني سوريا من واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم. تعتمد ملايين السوريين على المساعدات الدولية التي تمر عبر معبر باب الهواء الوحيد المفتوح بموجب قرار أممي. تسبب هذا الوضع في ضغوط أخلاقية وسياسية مستمرة على الإدارة الأمريكية لزيادة الدعم وتسهيل وصول المساعدات، وسط مخاوف من تحويلها لأغراض سياسية من قبل النظام.

  2. التنافس الدولي: يشكل الوجود العسكري الروسي المكثف والدعم الإيراني المستمر للنظام تحدياً مباشراً للنفوذ الأمريكي. تحولت سوريا إلى ساحة لتصفية الحسابات بين القوى الكبرى، مما يعقد أي مسار سياسي ويجعل من فرص التوصل لتسوية شاملة ضئيلة في المدى المنظور.

  3. المصلحة الأمنية المزدوجة: لا تزال الولايات المتحدة تريد منع عودة داعش، وفي الوقت نفسه ترى ضرورة الحد من التوسع العسكري الإيراني الذي يهدد حليفتها إسرائيل. أحياناً، يتطلب تحقيق هذين الهدفين تحالفات مع أطراف محلية تتعارض مصالحها في بعض الأحيان.

  4. الضغوط الداخلية: داخل المشهد السياسي الأمريكي، توجد أصوات تدعو لإنهاء التورط في الشرق الأوسط، بينما تطالب أخرى بمواقف أكثر صرامة تجاه نظام الأسد وحلفائه. يجب على البيت الأبيض أن يوازن بين هذه المطالب المتضاربة.

  5. ديناميات المنطقة المتغيرة: عملية التطبيع بين بعض الدول العربية والنظام السوري، وإن كانت محدودة، تخلق واقعاً جديداً. يجب على البيت الأبيض وسوريا أن يتعامل مع هذه الديناميات دون أن يبدو معرقلاً لجهود الجيران، وفي الوقت نفسه دون التخلي عن مبادئه المعلنة بخصوص مساءلة النظام.

مستقبل المشهد السوري: السيناريوهات المحتملة وتأثير السياسة الأمريكية

بناءً على مسار السياسة الأمريكية تجاه سوريا الحالي، يمكن استشراف عدة سيناريوهات لمستقبل البلاد:

  • السيناريو الأول: استمرار الجمود: وهو السيناريو الأكثر ترجيحاً في المدى المتوسط. يستمر تقسيم سوريا فعلياً إلى مناطق نفوذ (نظامية بقيادة روسيا وإيران، وأخرى في الشمال الشرقي بدعم أمريكي، وثالثة في الشمال الغربي بوجود تركي). يستمر الدعم الإنساني والضغوط الاقتصادية دون حدوث تغيير جيوسياسي كبير. يبقى الموقف الأمريكي من سوريا في هذا السيناريو دفاعياً بدرجة كبيرة، يركز على منع التدهور وليس تحقيق اختراق.

  • السيناريو الثاني: تفاهمات إقليمية محدودة: قد تدفع الاعتبارات الأمنية والإقليمية، مثل المخاوف من انتشار المخدرات أو الهجرة غير النظامية، إلى حوارات غير معلنة أو تفاهمات عملية بين واشنطن وحلفائها من جهة، والنظام السوري وحلفائه من جهة أخرى، حول قضايا محددة. لكن ذلك لن يعني انفراجاً سياسياً شاملاً.

  • السيناريو الثالث: تصعيد غير متوقع: أي حدث أمني كبير، مثل هجوم على القوات الأمريكية، أو تصعيد بين إسرائيل وإيران على الأراضي السورية، قد يدفع البيت الأبيض إلى رد عسكري حاسم، مما يعيد رسم خطوط الصراع بشكل مفاجئ. هذا السيناريو يحمل مخاطرة تحول السياسة من حالة "الثبات" إلى حالة من المواجهة المباشرة.

بين الخطاب الثابت والتعقيدات المتغيرة

في النهاية، تؤكد التصريحات الأخيرة للبيت الأبيض أن السياسة الأمريكية تجاه سوريا تسير على خط متوازن بين الثبات على المبادئ العامة والمرونة في التعامل مع المستجدات الميدانية. يهدف خطاب "الاستقرار والوحدة" إلى طمأنة الحلفاء وردع الخصوم في وقت يشهد فيه الإقليم تحولات. ومع ذلك، فإن الفجوة بين الخطاب الثابت من جهة، والتعقيد الهائل والمتغير للأزمة من جهة أخرى، تظل كبيرة.

ستبقى التحديات الإنسانية والأمنية والجيوسياسية تمتحن إرادة واشنطن وقدرتها على الحفاظ على هذا النهج. ما هو واضح أن البيت الأبيض وسوريا سيبقيان موضوعاً مركزياً في سياسة الشرق الأوسط لأمريكا، وأن أي تطور كبير في الملف سيكون محصلة لتفاعل معقد بين الإرادة الداخلية الأمريكية، وتحركات النظام وحلفائه، وديناميات القوى الإقليمية الفاعلة. مستقبل الشعب السوري، في هذا المعادلة الصعبة، يبقى السؤال الأكثر إلحاحاً والأقل وضوحاً في الإجابة.

إرسال تعليق

أحدث أقدم